هو: أن لا حق للإنسان في الحكم بل الحكم له وحده فقط.
فكان الإمام (عليه السلام) يقول: نعم، أنا أيضاً أقول: لا حكم إلا لله، لكنه بمعنى: أن وضع الحكم والقانون ليس إلا لله. وهؤلاء يقولون بأن الحكومة والزعامة أيضاً لله، وهذا باطل، فإن حكم الله لابدّ أن يجري على يد البشر، ولابد للناس من حاكم صالح أو طالح خير أو شر.
(كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله. وإنه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر (6) يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى، حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر) (7).
إن الإمام (عليه السلام) - كسائر الرجال الربانيين - يحتقر الحكومة بصفتها مقاماً دنيوياً يشبع غريزة (حب الجاه) في الإنسان، وبصفتها هدفاً للحياة، وحينئذ فلا يعتبرها بشيء أبداً، بل هي عنده - حينذاك - أهون من عظم خنزير في يد مجذوم، كما جاء ذلك في بعض كلماته (عليه السلام).
ولكنه (عليه السلام) يقدسها تقديساً عظيماً إذا كانت مستقيمة غير محرّفة عن سبيلها الأصيل والواقعي الحق، وهو أن تكون وسيلة إلى إجراء العدل وإحقاق الحق، وخدمة الخلق، ومانعاً عن تغلب الرقيب الباطل المنتهز لفرص الوثوب على حقوق الناس. ولهذا فهو (عليه السلام) يكافح هذا الرقيب الباطل الثائر الذي ما زال يتربص بالحق الدوائر، ولا يألوا جهداً عن الجهاد المقدس لحفظها حينئذ وحراستها عن أيدي المنتهزين الطامعين.
قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار، وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) ( .
ويتكلم الإمام (عليه السلام) في الخطبة 209 حول الحقوق فيقول:
(.. والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه وتوسعاً بما هو - من المزيد - أهله.
ثم جعل سبحانه من حقوقه: حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.
وأظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي. فريضة الله سبحانه لكلٍّ على كلّ. فجعلها: نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حتى عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهناك تذل الأبرار، وتعِزُّ الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد) (9).
أهمية العدالة في نهج البلاغة
إن أولى آثار الإسلام هو أثره في أفكار المسلمين، فإنه لم يأت بتعاليم جديدة حول الفرد والمجتمع والعالم فقط، بل بدّل أفكار العالم أيضاً، وإن الأثر الذي جاء به الإسلام ليس بأقل ممّا جاء به من تعاليم.
كل معلم يعلم تلاميذه معلومات جديدة، وكل مدرسة فكرية تعطي لأتباعها ثقافات جدية، ولكن قليل من المعلمين وقليل من المدارس الفكرية التي تهب لإتباعها أسلوباً فكرياً جديداً، بحيث تغير الأسلوب الفكري السابق فيهم وتقلبه إلى مقاييس أخرى.
وهذا ممّا يحتاج إلى توضيح أكثر، فكيف تتغير أساليب الفكر؟ وللإجابة نقول:
إن الإنسان موجود مفكّر، ولهذا فهو يستند في المسائل العلمية والاجتماعية على الاستدلال، وفي استدلاله يستند إلى بعض الأصول والمبادئ التي يستنتج ويحكم بناءً على تلك المبادئ والأصول.
وإن الاختلاف في أساليب الفكر ينشأ من الاختلاف في تلك المبادئ والأصول التي يستند عليها الاستدلال والاستنتاج والحكم، فإن الاختلاف في نوعيتها ومبانيها هو الذي يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام. من هنا ينشأ الاختلاف في النتائج.
وتتساوى أساليب التفكير في المسائل العلمية بين العارفين بالأسس العلمية في كل زمان، وإن كان هناك اختلاف في المسائل العلمية فهو في أسلوب الفكر العلمي بين زمان وزمان آخر. أما في المسائل الاجتماعية فلا تتساوى أساليب الفكر حتى بين أبناء العصر الواحد. ولهذا علل لا مجال هنا للبحث فيها.
إن الإنسان حينما يواجه المسائل الاجتماعية والأخلاقية لابدّ وأن يقيّمها في نفسه وفكره، وحينئذ فهو يرتب بين تلك المسائل مراتب وقيماً ودرجات مختلفة، وعلى أساس هذه الدرجات الترتيبية تتفاوت ما يستند إليه من المبادئ والأصول من شخص إلى آخر، ومن هنا تختلف أساليب الفكر.