أو هذه الصورة المتحركة : « و إنما أنا كقطب الرحى : تدور عليّ و أنا بمكاني » أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة ،
و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور : « ويل لسكككم العامرة ، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة » و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل . و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة . و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال ، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر ، فهو و إن أخاف بمركوبه إلاّ أنه يخشى أن يغتاله . ثم انظر بعد ذلك الى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول : « صاحب السلطان كراكب الأسد : يغبط بموقعه ، و هو أعلم بموضعه . » و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه ، فيقول : « إنّما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه » و الرّدف هو الراكب خلف الراكب . ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب : « إياك و مصادقة الكذّاب فإنه كالسراب : يقرّب عليك البعيد و يبعد عنك القريب » أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن ، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا . فما أهول الموت و ما أبشع وجهه . و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه . فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا ، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر . فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا .
فبعد أن يذكّر عليّ الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه ، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين : « فكأنّ كل امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، فيا له من بيت وحدة ، و منزل وحشة ، و مفرد غربة » ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون ، بعبارات متقطّعة متلاحقة و كأنّ فيها دويّ طبول تنذر تقول « ما أسرع الساعات في اليوم ، و أسرع الأيام في الشهر ، و أسرع
[ 14 ]الشهور في السنة ، و أسرع السنين في العمر » بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل ، و تشعلها العاطفة ، و يجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئنّ ، قائلا :
« و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم » . ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ :
« و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا ، و بالسمع صمما ، و بالحركات سكونا .
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات [ 1 ] .
جيران لا يتآنسون ، و أحبّاء لا يتزاورون ،
بليت بينهم عرى التعارف ، و انقطعت منهم أسباب الإخاء . فكلّهم وحيد و هم جميع ، و بجانب الهجر و هم أخلاّء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، و لا لنهار مساء . أيّ الجديدين [ 2 ] ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا [ 3 ] » .
ثم يقول هذا القول الرهيب : « لا يعرفون من أتاهم ، و لا يحفلون من بكاهم ، و لا يجيبون من دعاهم » فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكّانه في قوله : « جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون » ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ : « أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا » و مثل هذه الروائع في « النهج » كثير .
هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة ،
مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة . فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخيّة حارّة . و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدفء . و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في
[ 1 ] ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل ، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات ، أي النوم . [ 2 ] الجديدان : الليل و النهار . [ 3 ] سرمد : أبدي . [ 15 ]ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة ، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعّالة في إنتاج هذا الأثر . ذلك ان المركّب الإنساني لا يرضيه ، طبيعيا ، إلا ما كان نتاجا لهذا المركّب كله . و هذا الأثر الأدبي الكامل ، هو ما نراه في نهج البلاغة . و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيّار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر .
أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى عليّ يقول : « لو أحبّني جبل لتهافت » أو « فقد الأحبّة غربة » أو « اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفأوا إنائي ، و قالوا : « أ لا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموما أو مت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي » و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة ، يخاطب به ابن عمّه الرسول :
« السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك ، و السريعة اللحاق بك قلّ ، يا رسول اللّه ، عن صفيّتك صبري ، و رقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ » و منه « أمّا حزني فسرمد ، و أمّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم » ثم إليك هذا الخبر :
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال :
خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام ، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، و عليه مدرعة من صوف ، و حمائل سيفه ليف ، و في رجليه نعلان من ليف ، فقال عليه السلام ، في جملة ما قال :
« ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، و أقبل منها ما كان مدبرا . و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار ، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، و يشربون الرّنق ؟ قد ، و اللّه ، لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق ؟ أين عمّار ؟ و أين ابن التيهان ؟ و أين ذو الشهادتين ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة ؟ »
[ 16 ]قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء و أخبر ضرار بن حمزة الضابىء قال : فأشهد لقد رأيته يقصد الإمام في بعض مواقفه ، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول : « يا دنيا يا دنيا ، اليك عني أ بي تعرّضت ؟ أم إليّ تشوّقت ؟ لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير ، و خطرك يسير ، و أملك حقير آه من قلّة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد » هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته ، تواكبه أنّي اتّجه في نهج البلاغة ،
و حيث سار . تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط ، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا .
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح ، تألّم و شكا ، و وبّخ و أنّب ، و كان شديدا قاصفا ، مزمجرا ،
كالرعد في ليالي الويل و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله : « أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب الخ » ، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام .
فهي في أعماله ، و في خطبه و أقواله ، مقياس من المقاييس الأسس . و ما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب ، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب ، ذات القوة الدافقة و العمق العميق
[ 17 ]