ها هو شهر رمضان الكريم يطرق أبوابنا قادما من جديد ويحمل ضمن ثوانيه الفرصة العظيمة لمزيد من العبادة والتقرب لله - سبحانه وتعالى - لمزيد من الأجر المبارك في حساب الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون، لكن – مع الأسف الشديد - مع اقتراب دخول شهر رمضان الكريم بدأت القنوات التلفزيونية تبشرنا باستعداداتها لهذا الشهر الكريم ليس بالعمل المفيد، لكن بالمسلسلات والأفلام والمسابقات المحرمة، وكأن شهر رمضان - شرفه الله - شهر قمار وفساد فكري وليس شهر عبادة، وأن فيه ليلة خير من ألف شهر لمن وفقه الله بإدراكها وقيامها. وسبق أن كتبت عن هذا الموضوع كثيرا، وأسأل الله أن يجد القلب والبصيرة المتعقلة لإعادة النظر في هذا الإسراف الفكري الإعلامي المؤثر سلبا في قدسية وروحانية هذا الشهر الكريم المبارك.
إن الموضوع الآخر المهم المتعلق بالإسراف الذي بدأ يأخذ حيزا إعلانيا غير مبرر، هو الدعوة إلى التسوق في شهر رمضان وإبراز أنواع المأكولات من كل ما لذ وطاب، وتقديم البرامج التي تشرح أنواع الأكلات وطرق إعدادها، وكأن هذا الشهر المبارك شهر أكل وتسمين وزيادة لمزيد من الكروش والأوراك لدفعنا إلى مزيد من أمراض العصر من ضغط وسكري وزيادة دهون وأمراض قلب وغيرها كثير.
إن ثقافة تغيير الاستهلاك في رمضان ودعمها بالدعايات التلفزيونية والإعلانية في مختلف وسائل الاتصال والتواصل تتطلب منا جميعا وقفة مراجعة لهذه الثقافة الخطرة، ليس في شهر رمضان فقط، لكن في أسلوب حياتنا بشكل عام، لأن من مظاهر تخلف الأمم ارتفاع نسبة استهلاكها مقابل إنتاجها، وهو ما يجب علينا الانتباه إليه والعمل من أجل تغييره في ثقافتنا الحياتية، خصوصا عندما نعرف أن ما نستهلكه أقل بكثير مما نصرف المال عليه، وأن ما نتخلص منه ويرمى في النفايات من المأكولات وغيرها يتجاوز بكثير ما يعتقده أغلبيتنا، حتى أن الإحصائيات تقول إن ما نتخلص منه من نفايات، وأغلبيتها مأكولات، عشرة أضعاف ما يتخلص منه الفرد في الدول المتقدمة. وهنا أذكر قصة يرويها أحد السعوديين كان يدرس أو يعمل في ألمانيا - وربما البعض منا اطلع عليها في الإنترنت - يقول: ''ذهبت وعدد من الزملاء إلى مطعم ألماني وكنا جائعين وطلبنا كمية كبيرة من الأكل وكان في المطعم عدد من الأشخاص وبينهم عدد من السيدات الكبيرات في السن ولم يستطعن رفع أعينهن عنا نظرا لحجم الطعام الذي طلبناه، وكما هي العادة لم نأكل من الطعام إلا النزر اليسير وطلبنا الفاتورة وهممنا بالخروج، وإذا بواحدة من تلك السيدات تصرخ علينا، أو قال ترفع صوتها وتؤشر إلينا بكلام لم نفهمه في البداية، ثم أوضحت لنا أن ما قمنا به خطأ كبير يصل إلى مرحلة الجريمة في حق أنفسنا أولا ثم حق المجتمع، قالت لماذا تطلبون كل هذا الطعام ثم لا تأكلونه؟ ألا تعتقدون أن هذا إسراف وإضرار في حق الآخرين، فبادر أحدنا بالرد عليها، وأوضح لها أننا طلبنا الطعام ودفعنا قيمته، وأننا تحملنا قيمة ما طلبنا وأننا أحرار في أكله أو تركه، والمال مالنا، وهنا قالت لنا بصوت واضح وصريح وصارم: ''المال مالك لكن الموارد ملك الجميع''، ثم أردفت قائلة: هناك ملايين الجياع في العالم أحق بما سيرمى في الزبالة. وفي هذه الأثناء كانت إحدى رفيقاتها قد طلبت شخصا وعندما وصل الرجل أوضح لنا أنه ضابط من مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وأوضح لنا أن ما قمنا به مخالفة وحرر لنا تلك المخالفة، وقال لنا بلغة مؤدبة وحازمة: ''اطلبوا كمية الطعام التي يمكنكم استهلاكها .. وكرر لنا عبارة السيدة نفسها بقوله: المال لكم .. لكن الموارد للجميع''.
أردف صاحب القصة يقول: ''احمرت وجوهنا خجلا، لكننا اتفقنا معه أننا فعلا في حاجة إلى التفكير في هذا الإسراف غير المبرر وغير المنضبط منا في حياتنا''، وذكر أنه وزملاءه قاموا بتصوير المخالفة وأخذ كل واحد منهم نسخة ليضعها أمامه حتى يتذكروا هذا الموقف، وألا يكرروا الإسراف أو الهدر أبدا.
إن القصة المذكورة نعيشها كل يوم في حياتنا ونستنزف كل يوم أطنان الطعام التي لا نستهلكها، لكنها - مع الأسف الشديد - تذهب إلى القمامة وتحملنا مصروفات إضافية عالية للتخلص منها، إضافة إلى استهلاكنا واستنزافنا كل الموارد التي نملكها أو نستوردها دون أدنى تفكير في أثر ذلك السلبي في اقتصادنا واقتصاد العالم وأثره البيئي السيئ، وفي قول الله سبحانه ''وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين'' التوجيه المتكامل لمنهج حياة تتوازن فيها كل القيم.
أجزم بأن كل واحد منا لديه قصة يستطيع أن يرويها حول سوء إدارتنا لمواردنا، وأننا فعلا مجتمع مستهلك غير منتج، وأننا لا نعرف حتى كيف أن كثيرا من الأجهزة التي نستعملها عندما تتعطل يمكن إصلاحها، وليس كما يقول لنا من يستغلنا إن هذه القطعة لا يمكن إصلاحها وإن تكلفة الإصلاح أعلى من قيمة القطعة الجديدة ثم يصلحها ويعيد بيعها لنا أو لغيرنا، علما بأن مثل هذا الكلام لا نسمعه خارج المملكة أبدا، وللحديث عن الانتقال من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج عودة - إن شاء الله.
وقفة تأمل
''إلى السماء تجلت نظرتي ورنت
وهللت دمعتي شوقا وإيمانا
جزيت بالخير من بشرت محتسبا
بالشهر إذ هلت الأفراح ألوانا
عام تولى فعاد الشهر يطلبنا
كأننا لم نكن يوما ولا كانا
فأول الشهر قد أفضى بمغفرة
بئس الخلائق إن لم تلق غفرانا
ونصفه رحمة للخلق ينشرها
رب رحيم على من صام حسبانا
وآخر الشهر عتق من لهائبها
سوداء ما وفرت إنسا وشيطانا
ونسأل الله في أسباب جنته
عفوا كريما وأن يرضى بلقيانا''
أسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يتقبل منا صيامه وقيامه. وكل عام وأنتم بخير.
د. عبد العزيز بن عبد الله الخضيري